المرشديّون

المرشدية – Murshidi

مضى أكثر من مئة عام على تأسيس الطائفة المرشدية ففي 12 تموز 1923 وحّد سلمان المرشد العشائر الثلاث العمامرة والمهالبة والدراوسة- والتي تنتمي للعشيرة الغسانية أو ما يعرف بالغيبية- فاتخذه أتباعها إماماً وراعياً صالحاً.

سلمان المولود في اللاذقية سنة 1907 أو الصبيّ كما كان يحلو لأهل الجوبة بمناداته وهو الابن الوحيد لأبيه، وقد استطاع بوداعته أن يجعل القلوب والعقول تأنس له وما فتِئ حبه يتعاظم بين أبناء جماعته حتى وصلت أخباره نواحي سورية وخارجها، وراحت الصحف المحلية والعربية والعالمية تتحدث عن ظهور نبي جديد في الساحل وأطلقت عليه لقب رئيس زعماء العلويين.

لم تكن صيحة سلمان دينيّة فقط أزالَ فيها ما شاب الدّين الإسلامي الحنيف داعياً الناس للرجوع بقلوبهم إلى الله بل كانت قيامته ثورةً على طغيان الإقطاع ونصرة للمستضعفين. لم يرُق لرجال الدين امتحان الأهليّة الذي هزّ أركان عرش احتكار السلطة الكهنوتية ملغياً وراثة المشيخة ولم يُعجب من استعبد الناس عقوداً أن يراهم يتبعون من يُعبّد لهم درب الخلاص ولم ترضَ فرنسا عن حركة سلمان بوصفها حركة مذهبية تحررية فقامت بسجنه ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية ليتم نفيه لاحقاً إلى الرقة سيراً على الأقدام ولم تفلح كل تلك المحاولات أن تنال من أتباعه بل زادتهم حباً وتمسكاً.

بعد عودته دخل الإمام المعترك السياسي بطلب من جماعته وفاز بعضوية البرلمان نائباً عن عشيرته التي بلغت آنذاك اثنين وثمانين ألفاً وبذلك أسكت سلمان باليد الأولى صوت الإقطاع وأطلق بالثانية الحضارة لشعبه فشق الطرق في الجبال الوعرة وأشاد المدارس في قرى جماعته. بعد تسلم حكومة ليون مقاليد الحكم في فرنسا جرى استفتاء على انضمام الساحل وجبل الدروز إلى سورية وقد برز تياران: انفصاليّ برئاسة إبراهيم الكنج و قائمة وحدوية بزعامة المرشد أيدت الانضمام وأصدرت بياناً بذلك.

أعيد انتخاب سلمان نائباً وزعيماً لكتلته المؤلفة من ستة نواب لكن دخول جيش الحلفاء ودفع البلاد ليد زعماء الكتلة الوطنية شكلت فرصة للانتقام من الإمام كيف لا وهو الزعيم الأقوى بين الأقليات وأول من ثار على احتكارهم وطبقيتهم وأوقف توغل البعثات التبشيرية في الجبل واستغلال شركة الامبريال الانكليزية للفلاحين عبر التلاعب بأسعار الدخان. قام أعداء المرشد بتأليب الصحافة عليه وأثاروا أهل الجوبة ضده وأمروهم بإحراق بيته وحارته لا بل استعانوا وبشكل مخزي بقوات فرنسية لإرسالها إلى الجوبة.

أبت سماحة الإمام إلا أن يتناسى خلافه ويعلن من تحت قبة البرلمان بيانه الشهير والذي تلاه عنه النائب فخري البارودي في 21 أيار 1945 وفيه وضع نفسه وعشائره تحت تصرف الأمة، ويعلم القاصي والداني أن رئاسة الجمهورية آنذاك ووزير الداخلية طلبا من المرشد إقناع الضباط والجنود المتطوعين في الجيش الفرنسي للالتحاق بالجيش العربي السوري الوطني حرصاً على البلاد وحماية لوحدتها. رغم حسن النيّة التي بادر بها سلمان وكان يعلم علم اليقين بغدر الحكومة وعدم التزامها بوعودها بإصدار العفو عن جماعته بل أرسلوا بأمر من القوتلي يوم ١٣ أيلول ١٩٤٦ قوة عسكرية لاحتلال الحارة واعتقال سلمان وكان من المقرر أن يكون قدومهم هو تلبية لدعوة أبي الفاتح لرجال الحكومة المحلية لحل الخلافات بينهم. دافع رجال سلمان عن الحارة بكل بسالة ولو شاء الإمام لما استطاعت أي قوة عسكرية

الوصول إلى منزله لكنه ارتضى أن يسلم نفسه رافصاً الفتك بجماعته وأطلق النار على زوجته هلالة بطلب منها وكيف له أن يترك صفيته وأم شعبه تقع بأيدي الذئاب ؟!! وإن كان الراعي الصالح من يبذل نفسه عن خرافه فقد فدى سلمان شعبه ووضع نفسه عنهم ليس في هذا فقط بل بكلّ أمر منذ قيامته بينهم.

حوكم الإمام محاكمة صورية يهزأ بها كل ذي عقل وقد ضربوا بكل القوانين والأعراف عرض الحائط متجاهلين الحصانة النيابية التي يتمتع بها ولم يتنبهوا لذلك إلا بعد مدة وعلى الرغم من رسائل ووساطات القيادات الوطنية كالزعيم سلطان باشا الأطرش للعدول عن قرار الإعدام وقد روى القاضي لأبناء سلمان بعد مدة كيف تم الضغط عليه للإسراع في إصدار الحكم. أرادوا الموت لمن أراد لهم الحياة وغاب الإمام فجر 16 كانون الأول 1946 ولُفّ الجسد الطاهر بالعلم الوطني وفق رغبته وقد أبرق ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا إلى شكري القوتلي يهنئه بالتخلص من سلمان.

ظنوا أن إعدامهم لمؤسس المرشدية سيخفت صوتها إلى الأبد لكن سرعان ما انقلب سحرهم وسقطت الحكومة وتم الطواف بالقوتلي والعظم في شوارع دمشق ليشاهدا المظاهرات ضدهما والاحتفال بطردهما. بعد غيبة سلمان استبعد أولاده وعائلته إلى ديرالزور وفرض على ابنه البكر محمد الفاتح السجن في دمشق ظناً منهم بانتقال الزعامة إليه ولم يتوقع أحد أن القائم الذي سيقوم بالدعوة سيكون مجيب.

مجيب سلمان المرشد ابن هلاله والحاصل على الشهادة التوجيهية من الجامعة الأميركية في بيروت والذي اضطر لقطع دراسته بسبب السجن والنفي ثم عاد ليلتحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1951. كان عمر مجيب أثناء قيامه إحدى وعشرين عاماً وخمسة أشهر وقد أعلن دعوته فجر 25 آب 1951 لتصبح ذكرى هذا اليوم عيداً للمرشديين أو ما يعرف بعيد الفرح لله. لم يأبه مجيب بمن عارضه واستمر بدعوته ولم يطلق على الأتباع اسم المرشديين إلا بعد قيامة مجيب وإن كل ما هي عليه الديانة المرشدية اليوم مستجلى من المعرفة الجديدة السامية عن الله وحكمته والتي أعطاها مجيب وجاءت على هيئة كلمات وأحاديث ومجالس تعليم.

رأى الأتباع فيه مُخلّصاً وطبيباً للأرواح وقد تنزلت معرفته على قلوب جماعته تثلج صدورهم وتذيقهم شهد الإيمان بالله وحبه. عَلَّمَ مجيب مريديه أن العمل هو مرآة للنفس وأن كمال عقل الإنسان في معرفة الله والارتفاع إلى الحياة لا يكون إلا بإمرة الخالق وأهاب بهم البعد عن انتحال صفة الدينونة فالله وحده هو الديان الرحمن الرحيم. لم يرق للشيشكلي وأعوانه أن يرى زعيماً بهذه الشعبية فأرسل آمر الشرطة العسكرية عبد الحق شحادة لاغتيال مجيب والجدير بذكره أن مجيب كان قد أخبر أتباعه بقرب غيبته وسمى لهم اسم القاتل الذي أطلق الرصاص على المُخلّص عصر السابع والعشرين من تشرين الثاني سنة 1953 وقد أقامت الدولة حراسة شديدة على الجثمان الطاهر ثم قامت بنقله وإخفائه كما فعلت بجسد سلمان خوفاً من أية رد فعل.

غابت النفس الزكية بعد أن أرست في قلوب شعبها حب الله والإيمان به وكان مجيب قد أشار قبل ذلك إلى وجوب اتباع ساجي بوصفه إمام المرشدية ومعلمها. سار ساجي بسيرة الفخر والعزة غير آبه بأحد وجابهَ العالم بالجهر وسيف الخير وقد رفض ساجي فكرة الثأر لمجيب رفضاً قاطعاً فالثأر لمؤسس العقيدة يكون في نصرة عقيدته. بعد انتهاء النفي والإقامة الجبرية عاد ساجي إلى جماعته وبدأ دورته على المؤمنين وذاع صدى المرشديين وصفاتهم الحميدة أنحاد البلاد وخارجها.

أعلن المرشديون رفضهم لإعادة انتخاب الشيشكلي سنة 1953 حيث أرسل ساجي بوجوب مقاطعة الانتخابات رغم تهديدات الشيشكلي وكانت المرشدية هي الفئة الوحيدة التي جهرت علناً وقوفها ضد الطاغية. بعد ذلك خسر الشيشكلي وهرب خارج البلاد وأقدم أحد الدروز على اغتياله في المنفى ورغم رحيله عاد الوضع للتعقيد بسبب رجوع أعيان الكتلة الوطنية الهاربين خارج البلاد لتسلم مقاليد الحكم ومورست شتى أنواع التعذيب والتنكيل بحق المرشديين وأقساها حملة مرشتي التي لم تسلم فيها حتى النساء وقد أرادوا منها أن يقاوم الشعب المرشدي الدرك ليتخذوها حجة ويلصقوا به تهمة العصيان والتمرد.

أرسل ساجي للحكومة ليسلم نفسه بديلاً عن أتباعه دون جدوى فأهاب بجماعته أن يثبتوا فقابل المرشديون العذاب بصدور رحبة متمسكين بعرى دعوة مجيب الحقة ومستلهمين الإرادة من إمامهم ومعلمهم. لم يتوقف ظلم العصبة الحاكمة على التعذيب بل أصدروا قراراً يقضي بالسجن لكل مرشدي يجتمع للصلاة أو يعترف في المحكمة بمرشديته. ومع وصول حزب البعث إلى السلطة ورغم وقوف البعض موقفاً سلبياً من المرشدية إلا أن الرئيس حافظ الأسد والذي كان وزيراً للدفاع آنذاك كان له رأي آخر وهو صاحب الجملة الشهيرة في إحدى الاجتماعات الحزبية: “المرشديون لا يريدون إلا أن يُصلّوا فما ضرر الصلاة” ثم أصدر قراراً منع فيه رجال الأمن من ملاحقة المرشديين.

استمر نفي ساجي حتى قيام الحركة التصحيحية وأجريت انتخابات رئاسية صوت فيها المرشديون للرئيس حافظ الأسد وقد أوقف الرئيس كل أشكال النفي والإقامة الجبرية والاضطهاد. عاد المعلم بعدها إلى اللاذقية وكانت فترة نشوء الكوارس وكتب الإمام وقتها الكثير من الأشعار وكلها رجاء بحب الله ومعرفته فهي كلمات ليست كالكلمات بل نغمات تاقت حور السماء للرقص على إيقاعها. أكمل ساجي ما ابتدأه سلمان وأعطى للمرأة حريتها فأصبحت الفتاة المرشدية تشارك في كل الطقوس والشعائر وتحضر الندوات التعليمية وتنشد الأشعار في المناسبات والحفلات الدينية.

كما اهتم ساجي اهتماماً شديداً بتعليم أبناء شعبه وضرورة الانفتاح على الجوار واحترام مشاعر الناس الدينية وتحرير عقولهم فالدين كما قال الإمام “جاء لإذكاء إرادة الحياة وإقامة الإنسان الفاعل لا لتعطيل الإرادة وتكبيل النفس بقيود الاتكالية المبررة تخاذلها بإسناد كل أحداث عالمها صغائرها وكبائرها إلى قوى سماوية متدخلة في عالم الإنسان”.

وأشار ساجي إلى أن الدين لا اسم له وأن تسمية الأسماء هي سبب عدم التجرد والانحراف عنه إلى التسمية. وقد أهاب بأتباعه الاعتزاز والجهر بمرشديتهم فالمرشدية لا تسعى إلى الحكم والسلطة ولا يعزها أن يتقلد أفرادها المناصب بل العزة تكون بالثقافة الروحية الواسعة والفكر المستنير الراقي . غاب ساجي عن شعبه يوم 23 تشرين الأول 1998 وهو الإمام الخاتم وترك لأتباعه معرفة كاملة عن الله وشريعة أساسها الطهر والنقاء وعروة يستمسكون بها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

مصادر للاستزادة: 

  • لمحات حول المرشدية: ذكريات وشهادات ووثائق لمؤلفه نور المضيء مرشد
  •  شعاع قبل الفجر (مذكرات أحمد نهاد السياف) لمؤلفه أحمد نهاد السياف 
  • البحث عن الحقيقة: المرشدية وسلمان المرشد (أبو فاتح) لمؤلفه منذر الموصلي.
  • وميض في الغسق حكاية رجل : طفولته فقر وظلم، ويفاعته تمرد وثورة وشبابه زعامة … فاستشهاد : سلمان المرشد (أبوفاتح)،1907-1946 : دراسة بحثية نقدية تحليلية لمؤلفه عيسى أبو علوش